د. محمد حبش بين الفقه المأسور والوعي بالمأثور

تاريخ النشر: الأحد 05-01-2025

د. محمد حبش بين الفقه المأسور والوعي بالمأثور

لاشك أن الوعي الفقهي عامة والسوري خاصة مازال قاصراً في جوانب عديدة تتعلق بالحضور والريادة وفهم الأزمة الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، والتوقف عن:
1- خلط الوعظ بالفقه.
2- تحنيط الفقه بالاستنساخ الدقيق وترك الاستنتاج العميق.

تتبرقع الوجوه الدينية المعاصرة بخرق ومسوح التقليد، وبنسب متبانية، وإن بدا بعض التحرر في صورها، إلا أن الروح التراثية حاضرة ليس فقط بمفرداتها بل بأحكامها وتصوراتها أيضاً، وفي وضوح جلي يخاصم الزمن ويفقد الإسلام زمالته الحياة (ربنا آتنا في الدينا حسنة ) وترك للمقاصد العليا للقرآن الكريم التي تربط الاحكام بغاية الرحمة، وهذا مخالف لأصول العلم والبحث عن الحق حيث يقول الإمام ابن تيمية: «وأحق الناس بالحق من علق الأحكام بالمعاني التي علقها بها الشارع» (مجموعة الفتاوى، 22/321).

الارتباط وثيق بين فقه التنزيل والمقاصد ذلك أن المقاصد:
· خلفية لتنـزيل الأحكام ابتداء.
· ضابط لتسديد التنـزيل اهتداء.

كما أن فقه التنـزيل إحدى أهم السبل لتفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية في الواقع المعاش.
إن استحضار الفقه التقليدي لا يعني إجابة صحيحة بالضرورة على متغيرات الزمن ولذلك يرى الدكتور محمد حبش أن “الزمن هو البعد الرابع للأشياء، ولا معنى لاي معطى علمي دون اقترانه بالزمان والمكان، وفي الواقع فإن القرآن الكريم لم يذكر أي جغرافيا خارج مصر والجزيرة العربية، ولم يذكر شيئاً عن الشعوب العالمية من غير نسل إبراهيم، وهذا في الواقع يحدد الأفق الذي تنزل القرآن فيه، لتنذر أم القرى وما حولها، مع أنه جاء رحمة للعالمين، فليس في القرآن الكريم ذكر أوروبا ولا امريكا ولا الهند ولا الصين، وليس فيه ذكر السلاف ولا البربر ولا الآريين ولا الفايكنغ ولا الكارولنجيين، هذا كله لا يعيبه ولا ينقصه، ولكن يفرض موضوعياً علينا نحن أهل القرآن والتوحيد أن لا نحمل القران ما ليس فيه وأن لا نستنطقه بما لم ينطق فيه، وأن نترك أفقاً أكبر للعقل في المسكوت عنه في النص”.

 

وفي مباشرة وتصريح أكبر يقول د. حبش: لو سالتني ما حكم البوذيين أو الهندوس أو الشنتو أو السيخ أو الأوموتو أو الجينية أو الزرادشتية؟ فالجواب ببساطة: أنهم غير مذكورين في القرآن وحكمهم هو الاجتهاد والعقل والنظر والبحث فيما يمكن أن نستفيد منهم أو نتضرر إذا بنينا معهم مصالحنا ورؤيتنا. بل إن المشهد الميسحي اليوم بكاثوليكه وأرثوذكسه وبرتستانته ليس مذكوراً في القرآن ولا في السنة، وما أخبر عنه القرآن هم قوم غابرون قال عقب الحديث عنهم تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعلمون. ولو سالتني ما حكم الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية والرأسمالية والشيوعية والليبرالية؟ فمن التعسف والتكلف أن أجد الجواب في القرآن الكريم، وهي نظم سياسية ولدت في القرون الأخيرة، وإنما السبيل لمعرفة حكمها هو النضال المعرفي والكفاح الوطني والتعاون مع الشرفاء والنبلاء للوصول إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

باختصار القرآن نور يهدي وليس قيداً ياسر. وهذه أهم المشاكل التي يعيشها الفقه الراهن القائم على تغييب العقل والتوسع في ائرة المحظورات المتكلف فيها ومع تغييب واضح للمقاصد العليا. لقد توسع بعض أهل العلم في نقد حصر المقاصد ومن هؤلاء الإمام ابن تيمية حيث يقول «وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية، ودنيوية: جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجا لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة، وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، وحقوق المماليك، والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظاً للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق، ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح.» ((مجموعة الفتاوى، 32/234)).

“فمن قصر المصالح على العقوبات، التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقد قصر” يقول الإمام الشاطبي في الموافقات : ” تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين”.

 

هذه المعاني تكاد تكون معدومة في واقعنا الفقهي اليوم حيث نرى التأرجح والعبثية وتحول الخطيب الى فقيه والفقيه الى مبرر والتبرير يكرس الدورة الرديئة للتخلف. ويبقى الإحساس الأساسي للفقيه الذي يسعى لحفظ كرامة دينه وعقله هو إحساسه بالأهمية القصوى بضرورة تفعيل أصول الفقه من جديد، كي لا يظل الإسلام فكرة حلوة على الورق فقط ويتجاوزها في الواقع الخلق..

جميع الحقوق محفوظة لملكية الدكتور علاء الدين آل رشي