عفرين.. سقوط أقنعة الأتراك

تاريخ النشر: الأحد 05-01-2025

عفرين.. سقوط أقنعة الأتراك

يغيب عن السوريين أن ما يحصل على أراضيهم هو صراع إرادات دولية، وأن الاقتتال الواقع وإن كانت صورته سورية سورية تركية لكن حقيقته هو كسر إرادات بين صناع السياسة في سوريا، أمريكي روسي بشخوص تركية كوردية وعربية وسنية وشيعية. ويصدق على أن ما يحصل في سوريا إنما هو صدام الجهالات وتصفيات الحسابات العالمية الأمر الذي أطال عمر النظام، وجعل الكثير من السوريين من حيث يعلمون أو لا يعلمون بنادق مأجورة، وبيادق مأمورة تحركها رغبات الكبار الذين يداعبون مشاعر الصغار نظاماً ومعارضة على الخارطة السورية فيمنون الجميع، وجعلوا الكل في حالة شهوة يطير العقل معها، ولكنها متعة مؤقتة مشحونة بلذة وبألم يشوبه دمار وعبث.

يسيطر على كثيرين من السوريين عقلية التشفي والاقتتال ظاهر ذلك كله (حرية) وباطنه (تدمير) للبنية الاجتماعية والنفسية وبيد السوريين بعد أن صدر القرار الدولي أن سوريا صفر مقدرات وأن سوريا بلا تاريخ ولا حاضر ولا مستقبل أي أن البلد بلا ذاكرة، كما أن الرياسة الأمريكية وإن اختلفت في الظاهر مع الروس إلا أن الكل تحت السيطرة فتركيا والنظام والمعارضة في خانة الحضور الوظيفي لما يطلب منهم.

استطاعت الإدارة الأمريكية توريط روسيا في حرب وإن ظهر للبعض انتصارها الوقتي لكنها خاسرة، واستطاعت أمريكا جعل تركيا تستنزف في المستنقع السوري، وجردت الولايات المتحدة الأمريكية بشار الأسد من أي قرار فكل القرارات خارجية. القتل المجاني للسوريين حيث يتلاعب بهم من في الخارج، فيسطر للسوريين أوهاماً في تحركاتهم ثم ما تلبث أن تتبخر تلك الوعود ليقع السوريون في أزمة جديدة لا تخدم إلا إطالة عمر النظام.

ما يحصل في عفرين هو اعتداء خارجي، ولا يمكن تبريره بحجة أي حزب كردي، وهذا الاعتداء يتنافى مع السيادة الوطنية، ويخضع لتجاوز وانتهاك قانوني تحت بند الاعتداء

عسكرياً لم تبقى على الأراضي السورية قوة منظمة عسكرية إلا قوات سوريا الديمقراطية، وقوات النظام وقد أثبتت الأولى رغم وجود بعض الانتهاكات فاعليتها وجهوزيتها ولابد من كسر أي رأس عسكري لتظل السيادة لجهة النظام وعتاده وقواته الرديفة.. المسيطر على المشهد السوري هو الغزل العام للقرار التركي بل والنفاق أحياناً واستثارة عوامل البغض والتحريض البيني وما بيان الإخوان المسلمين إلا يصب في فقدان السوريين وتنظيماتهم أي استقلالية.

إن تأملاً حياديا وطنياً ً بعيداً عن العاطفة الدينية أو القومية سوف يظهر أن الكل على الساحة السورية في خانة المفعول به، وأن الجميع بلا قرار ذاتي، وتجلى عن ذلك الوهم المقدس للذات وتدنيس الأخرين احتقان، وانقسام وعداء، وهو ما ضيع صفة الوطني عن كثير من الممارسات.

ما يحصل في عفرين هو اعتداء خارجي، ولا يمكن تبريره بحجة أي حزب كردي، وهذا الاعتداء يتنافى مع السيادة الوطنية، ويخضع لتجاوز وانتهاك قانوني تحت بند الاعتداء حيث أصدرت الجمعية العامة بالأمم المتحدة التوصية رقم (2131) في 21 ديسمبر 1965، وكان عنوانها “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحماية استقلالها وسيادتها”، ونصت على تحريم كل أشكال التدخل، والامتناع عن السماح أو مساعدة أو تمويل كافة النشاطات المسلحة والإرهابية لتغيير الحكم في دولة أخرى.

أصدرت الجمعية العامة بالمنظمة الدولية إعلان مبادئ القانون الدولي في 24 أكتوبر 1970، ونص على “ليس لدولة أو مجموعة من الدول الحق في التدخل المباشر أو غير المباشر ولأي سبب كان في الشؤون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى. ونتيجة لذلك اعتبار ليس فقط التدخل العسكري بل أيضاً كل أنواع التدخل أو التهديد الموجه ضد مكوناتها السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية مخالفاً للقانون الدولي”.

الاعتداء التركي تبرره قانونياً توقيع الدولتين السورية والتركية اتفاقا أمنيا بمدينة أضنة التركية يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 1998، وشكل ذلك الاتفاق “نقطة تحول” رئيسية في مسار العلاقات بين الدولتين وعلى الرغم من أن تركيا لا تنتظر مبرراً قانونياً لعدوانها المسلح والذي يتناقض تماما مع شعاراتها بالمحافظة على الدم السوري وظهور السيد أردوغان بشكل مسلم يبكي على مسلمي الروهينجا إلا أنه ورط الشعب السوري بهدمه أي وفاق اجتماعي ونقل مشاكل تركيا من بلاده إلى الداخل السوري، تناقل السوريون الكثير من الشعارات التركية في التعامل مع الكرد ونعتهم بأنهم دواعش القوميات ونعت الأحزاب الكردية بالانفصال وصدقه كثيرون.

الضربة التركية على عفرين تعكس:

1- ضعف العاصمة السياسية في دمشق وهو ما يعني أن بشار ليس بخير، وأن سوريا محتلة من جيوش عالمية وأن بقاء بشار لم يعد بيده.
2- فاعلية القرار الخارجي وفقدان السوريين الجسم السياسي السوري الداخلي المعتبر والذي يعبر عن مطالب الشعب حيث لم يستطع جسم سياسي معارض له ثقله قول لا لتركيا.
3- نجاح الإرادات السياسية الخارجية في تزييف الوعي السوري وتجييش السوريين للاقتتال الداخلي.
4- سقوط السوريين في فخ النظام والمتمثل بحرب بين كل المكونات.

القيادة التركية أخفقت بالاستجابة السريعة والجدية لتحديات الثورة السورية وفشلت منذ عقود لإيجاد حل للقضية الكردية الملتهبة بتركيا
القيادة التركية أخفقت بالاستجابة السريعة والجدية لتحديات الثورة السورية وفشلت منذ عقود لإيجاد حل للقضية الكردية الملتهبة بتركيا

 

أسباب هذا المأزق السوري العام؟

من العوامل الداخلية:
أولاً: ضمور الوعي وسطحيته، والذي كرس ضياع الاستقلال السياسي لكل السوريين وبلور تأثير السلطة في خلق جيل ورؤى قاصرة فطالت اللحى وتحول الدين إلى سكين والقومية إلى سور عزلة والوطن إلى مجانين والكل يذكرك بما قاله محمد الماغوط الفرح ليس مهنتي.

ثانياً: ضياع الهوية الوطنية الجامعة وعندما تتشظى الهوية الوطنية ينحاز المكونات إلى الهويات الأصغر فيترك الدين إلى الطائفة ويتحول الإنسان من الوطن إلى القومية ويتعذر الانتماء للوطن ويتمترس المنتفعون بعصى السلطة وتجار الدم ومافيا الحروب.

ثالثاً: فقدان الثقة بين الجميع، وهذا سلوك النظام المتبع حيث ضرب الكل بالكل وحطم أي محور استقطاب ونزع الاحترام عن كل شخصية معارضة ودمر نسيح العلاقات الاجتماعية.

أما العوامل الخارجية:
توافق جميع الشركاء الدوليين على إطالة عمر بشار وتوريط الشعب السوري في تصفية الخصوم على أرضه وكذلك خلق مشاريع استثمارات ومواقع نفوذ جديدة كما أنه تم تصدير أكداس من السلفية الشيعية والسنية والمتطرف القومي العربي والكردي إلى سوريا وتم وضع الكل تحت السيطرة وتسلميهم السكاكين لذبح بعضهم بعضا.

عفرين.. وسقط القناع
لن ينقذنا ويضع حدا لجرينا المريع نحو الانتحار سوى مراجعة جدية وعميقة من قبل جميع الأطراف لهذه الأخطاء الماضية الحاضرة، والاعتراف الحقيقي والمتبادل بالحقوق المتساوية، والمصالح المشتركة

ثمة قصور في المواقف الكردية التي رفعت رايات جلبت لهم وللكرد مبررات الاعتداء على عفرين. وكذلك فشل الترك في خدمة أي مشروع سوري يقول د.برهان غليون: القيادة التركية أخفقت في الاستجابة السريعة والجدية لتحديات الثورة السورية وفشلت منذ عقود في إيجاد حل للقضية الكردية الملتهبة في تركيا نفسها، ووضع حد للحرب الكردية التركية الطويلة الكامنة والمتفجرة معا. وهي أخطاء أكبر ارتكبتها مؤسسات المعارضة السورية التي اظهرت باستمرار، وتقريبا في كل المنعطفات، ذيلية لا تحسد عليها تجاه الدول الصديقة أو الداعمة بدل أن تبادر إلى التوسط وإطلاق مبادرة لتحييد عفرين، وإخراج المقاتلين، وحماية المدنيين، وفتح حوار داخلي حقيقي يضمن التوافق بين مطالب المجتمع الكردي المشروعة ومصالح الشعب السوري ويساعد على الحفاظ على وحدة سورية واستقلالها وسيادتها، وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية سليمة، والتعاون على إخراج جميع القوى والميليشيات الأجنبية من أراضيها.

مهما كانت النتائج لهذا التدخل التركي ستكون عواقب استمرار هذه السياسات الخاطئة وخيمة على السوريين أولا، عربا وكردا، وعلى المنطقة والاستقرار الإقليمي ثانيا، وعلى ثقة شعوبنا بالمستقبل أيضا.

لن ينقذنا ويضع حدا لجرينا المريع نحو الانتحار سوى مراجعة جدية وعميقة من قبل جميع الأطراف لهذه الأخطاء الماضية الحاضرة، والاعتراف الحقيقي والمتبادل بالحقوق المتساوية، والمصالح المشتركة في الأمن والسلام والاستقرار والازدهار. جميعنا، عربا وكردا، أكثرية وأقلية، مسلمين وغير مسلمين، محرومون، في ظل الاستبداد المقيت والتدخلات الأجنبية، من وطن يحمينا، ويحفظ حقوقنا، ويلبي تطلعاتنا، إلى الكرامة والحرية، وجميعنا اختار الطريق الخطأ للتعبير عن هذا التطلع المشروع والنبيل، ووسائل تحقيقه في الواقع.

وجوهر هذا الخطأ، الواحد والمشترك، الذي لغم خططنا جميعا، وأجهض خياراتنا، منذ عقود وحتى الأن، هو اعتقادنا، في مناخ غياب الحوار وانعدام التفاهم، بفعالية مبدأ فرض الأمر الواقع، سواء جاء بالقوة الذاتية أو بالعنف المستعار، والرهان على التدخلات الخارجية، حتى لو احتاج الأمر إلى التواطؤ مع الأجنبي، والعدو أحيانا، ضد الأطراف الأخرى المحلية والشريكة في الوطن، بل ضد الوطن نفسه.

ومن المؤكد أنه من منطق فرض الأمر الواقع لا ينبع أي حل، وإنما تعميق الخلافات وتأجيج النزاعات ودفع الصراع إلى مزيد من التعقيد، وتأجيل الحل إلى مالا نهاية، إن لم يكن جعل أي حل مستحيل المنال. عفرين لن تسقط فالمغضوب عليه من قبل أن يكون قاتلاً ويقتحم أراضي غيره لتصفية حساباته السياسية وتمزيق لحمة الوطن والدين والإنسان والضال من استثمره الأخر ليكون سكينا بيد الأمريكي أو الروسي أو التركي أو الإيراني لذبح إخوانه، الحل في المصالحات وإيقاف الدم.

جميع الحقوق محفوظة لملكية الدكتور علاء الدين آل رشي